فصل: فَصْلٌ: الْمِقْدَارُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْمِقْدَارُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا:

وَأَمَّا بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا شَرْعًا: فَالنَّجَسُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَمَكَانَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا، فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَنْجَسُ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَبَّ خَابِيَةً مِنْ الْخَمْرِ فِي الْفُرَاتِ، وَرَجُلٌ آخَرَ- أَسْفَلَ مِنْهُ- يَتَوَضَّأُ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِلِ بَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ، وَالنَّجَسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ أَوْ دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ النَّجَسُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْجَاسُ مُتَفَرِّقَةً عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْمِيزَابِ، ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَانِبٍ مِنْ السَّطْحِ أَوْ جَانِبَيْنِ مِنْهُ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ جَوَانِبَ يَنْجَسُ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَاءِ الْمَطَرِ إذَا مَرَّ بِعَذِرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَخَاضَ فِيهِ إنْسَانٌ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا مَرَّ أَكْثَرُهُ عَلَى الطَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اغْتَرَفَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لَا فَلَا؛ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا يَنْجَسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجَسُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَالْقُلَّتَانِ عِنْدَهُ خَمْسُ قِرَبٍ، كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَنًّا وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ.
فَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَهُوَ تَمَامُ الْحَدِيثِ، أَوْ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ (وَاحْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا» أَيْ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ بِالْقُلَّتَيْنِ قِلَالَ هَجَرَ، كُلُّ قُلَّةٍ يَسَعُ فِيهَا قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَقَدَّرْتُهُ بِالنِّصْفِ احْتِيَاطًا.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ بِالْغَمْسِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى، وَكَذَا الْأَخْبَارُ مُسْتَفِيضَةٌ بِالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ دَائِمٍ وَدَائِمٍ وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ وَالِاغْتِسَالَ فِيمَا لَا يَتَنَجَّسُ لِكَثْرَتِهِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا مُحْتَمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، إذْ النَّهْيُ عَنْ تَنْجِيسِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ ضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ، وَكَذَا الْمَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَالْبَوْلُ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَمَرَا فِي زِنْجِيٍّ وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ بِنَزْحِ مَاءِ الْبِئْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَعُرِفَ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْجَارِي، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ يُرَدُّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ وَقَالَ: لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِوَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْدِيرِ الْمَاءِ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابُنَا فِي التَّقْدِيرِ إلَى الدَّلَائِلِ الْحِسِّيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخُلُوصِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْخُلُوصُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرْفُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ- وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ- مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْبُخَارِيُّ اعْتَبَرَ الْخُلُوصَ بِالصَّبْغِ، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ اعْتَبَرَهُ بِالتَّكْدِيرِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ اعْتَبَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ اعْتَبَرَهُ بِالْعَشَرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ فَقَالَ: إنْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَرْجُو أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ فِي عِشْرِينَ لَا أَجِدُ فِي قَلْبِي شَيْئًا.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَسْجِدِهِ فَكَانَ مَسْجِدُهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقِيلَ: كَانَ مَسْجِدُهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، وَقِيلَ: مَسَحَ مَسْجِدَهُ فَوَجَدَ دَاخِلَهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَخَارِجَهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: لَا عِبْرَةَ لِلتَّقْدِيرِ فِي الْبَابِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ التَّحَرِّي، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأَكْبَرُ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ، أَلَا يُرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ بِرَدِّ الْيَقِينِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ: إنَّهُ إنْ كَانَ فِي غَالِبِ الرَّأْيِ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمِيزَابِ إذَا سَالَ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَغْسِلَ وَأَمَّا حَوْضُ الْحَمَّامِ الَّذِي يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ أَوْ تَوَضَّأَ إنْسَانٌ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ الْمِيزَابِ وَالنَّاسُ يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَلَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، ثُمَّ بُسِطَ مَاؤُهُ حَتَّى صَارَ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ هُوَ الْمَاءُ النَّجَسُ وَقِيلَ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ قَلَّ مَاؤُهُ، حَتَّى صَارَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ: إنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ هُوَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَاعْتَبَرَ حَالَةَ الْوُقُوعِ.
وَلَوْ وَقَعَ فِي هَذَا الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ عَاوَدَهُ الْمَاءُ، حَتَّى امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَاءُ فِيهِ صَارَ نَجِسًا.
وَلَوْ أَنَّ حَوْضَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْخُلُ فِي الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ إنْسَانٌ فِي خِلَالِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ حَوْضٌ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ، ثُمَّ نَضَبَ مَاؤُهُ وَجَفَّ أَسْفَلُهُ، حَتَّى حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَانِيًا هَلْ يَعُودُ نَجِسًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ، وَكَذَا الْمَنِيُّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَجَفَّ وَفُرِكَ، ثُمَّ أَصَابَهُ بَلَلٌ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ دِبَاغَةً حُكْمِيَّةً بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّرْتِيبِ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْبِئْرُ إذَا تَنَجَّسَتْ فَغَارَ مَاؤُهَا وَجَفَّ أَسْفَلُهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ فَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: هُوَ طَاهِرٌ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ هُوَ نَجِسٌ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَجْهُ قَوْلِ نُصَيْرٍ أَنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ مَاءٌ جَارٍ فَيَخْتَلِطُ الْغَائِرُ بِهِ، فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِ الْعَائِدِ نَجِسًا بِالشَّكِّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ مَا نَبَعَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاءٌ جَدِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمَاءُ النَّجَسُ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بِالشَّكِّ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْوَطُ، وَالْأَوَّلُ أَوْسَع، هَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ كَالْأَنْهَارِ الَّتِي فِيهَا مِيَاهٌ رَاكِدَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ طُولُ الْمَاءِ مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ فِي نَهْرِ بَلْخٍ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِي إيَّاهُ، وَبَيْنَ جَرَيَانِهِ بِنَفْسِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ.
وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَوْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ تَوَضَّأَ، إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَنْجَسُ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ يَنْجَسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ أَقْرَبُ إلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَرْضِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ وَاعْتِبَارُ الطُّولِ لَا يُوجِبُ، فَلَا يَنْجَسُ بِالشَّكِّ، وَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الطُّولِ إنْ كَانَ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ فَاعْتِبَارُ الْعَرْضِ يُوجِبُ، فَيُحْكَمُ بِالنَّجَاسَةِ احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْعُمْقُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ؟ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَبَرُوا الْبَسْطَ دُونَ الْعُمْقِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ رَفَعَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ انْحَسَرَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ اتَّصَلَ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ أَسْفَلُهُ لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى عَرْضِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ، وَقِيلَ: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ شِبْرٍ، وَقِيلَ: قَدْرُ ذِرَاعٍ، ثُمَّ النَّجَاسَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ كَيْف يُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ فَنَقُولُ: النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَدْرَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالنَّجَاسَةِ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَشَكَكْنَا فِيمَا وَرَاءَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ اسْتَنْجَى فِي مَوْضِعٍ مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ: لَا يُجْزِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي.
وَلَوْ وَقَعَتْ الْجِيفَةُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ- عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- إنْ كَانَ بَيْنَ الْجِيفَةِ وَبَيْنَ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْحَوْضِ مِقْدَارَ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ بِأَنْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ اغْتَسَلَ جُنُبٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْئِيَّةِ، حَتَّى لَا يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْئِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ النَّجَاسَةَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، فَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الْوُضُوءِ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَصَلُوا بَيْنَهُمَا، فَفِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ، كَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَرْئِيَّةِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ لِكَوْنِهِ مَائِعًا سَيَّالًا بِطَبْعِهِ، فَلَمْ نَسْتَيْقِنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ- بِخِلَافِ الْمَرْئِيَّةِ- وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ غَيْرَ جَامِدٍ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا وَثُقِبَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْجَمْدِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ فَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ وَاسِعًا، بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ لَا: خَيْرَ فِيهِ وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ: أَلَيْسَ الْمَاءُ يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ؛ وَهَذَا أَوْسَعُ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَقَالُوا: إذَا حُرِّكَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ تَحْرِيكًا بَلِيغًا يُعْلَمُ عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ رَاكِدًا ذَهَبَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا مَاءٌ جَدِيدٌ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ.
وَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَالْمَاءُ الْقَلِيلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَانِي أَوْ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْحَوْضِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَانِي فَهُوَ نَجِسٌ كَيْفَمَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً أَوْ مَائِعَةً؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْأَوَانِي لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا عَنْ النَّجَاسَاتِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتْ بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ فِي الْمَحْلَبِ عِنْدَ الْحَلْبِ، ثُمَّ رُمِيَتْ مِنْ سَاعَتِهَا لَمْ يَنْجَسْ اللَّبَنُ، كَذَا رَوَى عَنْهُ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ، لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبِئْرِ فَالْوَاقِعُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ حَيًّا، وَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ مَيِّتًا، فَإِنْ أُخْرِجَ حَيًّا فَإِنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ يُنَجِّسُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَفِي الْكَلْبِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِي كَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ، فَمَنْ جَعَلَهُ نَجِسَ الْعَيْنِ اسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفِ أَنَّ الْكَلْبَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَانْتَفَضَ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ.
وَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ أَيْضًا أَنَّ كَلْبًا لَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ فَانْتَفَضَ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ إنْ كَانَ الْمَطَرُ الَّذِي أَصَابَهُ وَصَلَ إلَى جِلْدِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ قَالَ: وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، فَدَلَّ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُضْمَنُ مُتْلَفُهُ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَلَا مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْخِنْزِيرِ، دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ وَقَعَا فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، ثُمَّ خَرَجَا أَنَّهُ يُعْجَنُ بِذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ صَلَّى وَفِي كُمِّهِ جَرْوُ كَلْبٍ: إنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَيَّدَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ مَسْدُودَ الْفَمِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ آدَمِيًّا لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا حُكْمِيَّةٌ- وَقَدْ اسْتَنْجَى- لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِزَوَالِ الْحَدَثِ أَوْ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْجِيًا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِالْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلِ أَكْثَرُ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَبَّ اللَّبَنَ فِي الْبِئْرِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بَالَتْ شَاةٌ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسًا، يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا يُنْزَحُ كُلُّهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَارَ هَذَا الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا لَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ طَهُورًا كَمَا كَانَ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَسَنِ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا بِطَهَارَتِهِ بِأَنْ اغْتَسَلَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُنْزَحُ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنْ عُلِمَ بِيَقِينٍ أَنَّ عَلَى بَدَنِهَا نَجَاسَةً أَوْ عَلَى مَخْرَجِهَا نَجَاسَةً تَنَجَّسَ الْمَاءُ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِهِ سَوَاءٌ وَصَلَ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِبْرَةُ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ إنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لَا يَنْجَسُ وَلَا يُنْزَحُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ وَصَلَ لُعَابُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ يَنْجَسُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ لَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرَ هُوَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ فَإِنْ كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَالْمَاءُ طَاهِرٌ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَالْمَاءُ نَجِسٌ وَيُنْزَحُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْزَحَ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالْمَاءُ كَذَلِكَ وَيُنْزَحُ كُلّه كَذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْفَأْرَةِ نَزْحُ عِشْرِينَ، وَفِي الْهِرَّةِ نَزْحُ أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ أَعْظَمَ جُثَّةً كَانَ أَوْسَعَ فَمًا وَأَكْثَرَ لُعَابًا وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ: إذَا وَقَعَتْ وَزَغَةٌ فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ حَيَّةً يُسْتَحَبُّ نَزْحُ أَرْبَعِ دِلَاءٍ إلَى خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُوَ عَنْ الْبَوْلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً.
وَقَدْ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ مِنْ الْبِئْرِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفِخًا أَوْ مُتَفَسِّخًا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِخًا وَلَا مُتَفَسِّخًا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ، وَفِي الْآدَمِيِّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَعَلَهُ خَمْسَ مَرَاتِبَ: فِي الْحَمَامَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا عِشْرُونَ، وَفِي الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ ثَلَاثُونَ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ، وَفِي الْآدَمِيّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْكِتَابِ يُنْزَحُ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ، وَفِي الْهِرَّةِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّخْيِيرَ بَلْ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وُجُوبًا وَثَلَاثِينَ اسْتِحْبَابًا، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَفِي الصَّغِيرِ مِنْهَا يُنْزَحُ الْأَقَلُّ وَفِي الْكَبِيرِ يُنْزَحُ الْأَكْثَرُ، وَالْأَصْلُ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ يُطَمُّ وَيُحْفَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْقَى الطِّينُ وَالْحِجَارَةُ نَجِسًا، وَلَا يُمْكِنُ كَبُّهُ لِيُغْسَلَ، وَالثَّانِي: مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ، فَلَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَحَوْضِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ يُصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُغْتَرَفُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ النَّجِسَةِ فِيهِ، ثُمَّ قُلْنَا: وَمَا عَلَيْنَا لَوْ أَمَرْنَا بِنَزْحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ؟ وَلَا نُخَالِفُ السَّلَفَ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَضَرْبٍ مِنْ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ ثَلَاثُونَ دَلْوًا» وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ جَمِيعِ مَاءِ زَمْزَمَ حِين مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا مَسْفُوحًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا.
وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَالْمَاءُ يَتَنَجَّسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا جَاوَرَ النَّجَسَ نَجِسٌ بِالشَّرْعِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ يُقَوَّرُ مَا حَوْلَهَا وَيُلْقَى، وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي» فَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَجَاسَةِ جَارِ النَّجَسِ وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا قَدَّرَهُ أَصْحَابُنَا، وَهُوَ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ؛ لِصِغَرِ جُثَّتِهَا، فَحُكِمَ بِنَجَاسَةِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُجَاوِرْ الْفَأْرَةَ، بَلْ جَاوَرَ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِتَنْجِيسِ جَارِ النَّجَسِ، لَا بِتَنْجِيسِ جَارِ جَارِ النَّجِسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِطَهَارَةِ مَا جَاوَرَ السَّمْنَ الَّذِي جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، وَحَكَمَ بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَارَ جَارِ النَّجَسِ لَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ؛ لَحُكِمَ أَيْضًا بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ جَارَ جَارِ النَّجَسِ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ قَطْرَةً مِنْ بَوْلٍ أَوْ فَأْرَةٍ لَوْ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ عَظِيمٍ أَنْ يَتَنَجَّسَ جَمِيعُ مَائِهِ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَفِي الدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ الْمُجَاوَرَةُ أَكْثَرُ؛ لِزِيَادَةِ ضَخَامَةٍ فِي جُثَّتِهَا فَقُدِّرَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْآدَمِيُّ وَمَا كَانَتْ جُثَّتُهُ مِثْلَ جُثَّتِهِ كَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُجَاوِرُ جَمِيعَ الْمَاءِ فِي الْعَادَةِ؛ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ فَيُوجِبُ تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا تَفَسَّخَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوَاقِعَاتِ أَوْ انْتَفَخَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرُجُ الْبِلَّةُ مِنْهَا؛ لِرَخَاوَةٍ فِيهَا فَتُجَاوِرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَقِيلَ: ذَلِكَ لَا يُجَاوِرُ إلَّا قَدْرَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِصَلَابَةٍ فِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا، هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا: يُنْزَحُ عِشْرُونَ إلَى الْأَرْبَعِ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ إلَى التِّسْعِ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَتَيْنِ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَفِي الثَّلَاثِ أَرْبَعُونَ، وَإِذَا كَانَتْ الْفَأْرَتَانِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ.
هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْبِئْرِ حَيَوَانًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَجْسِدًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى جَمِيعِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَجْسِدًا، فَإِنْ كَانَ رَخْوًا مُتَخَلْخِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْعَذِرَةِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِمَا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لِرَخَاوَتِهِ يَتَفَتَّتُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهُ، وَإِنْ كَانَ صُلْبًا نَحْوَ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَنْجَسَ الْمَاءُ قَلَّ الْوَاقِعُ فِيهِ أَوْ كَثُرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يَنْجَسُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَنْجَسُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ رَطْبًا يَنْجَسُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَإِنْ كَانَ مُنْكَسِرًا يَنْجَسُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَسِرًا لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا، وَتَكَلَّمُوا فِي الْكَثِيرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُغَطِّيَ جَمِيعَ وَجْهِ الْمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ وَجْهِ الْمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّلَاثُ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ وَقَعَتَا فِي الْمَاءِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرٌ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ سَلَمَةَ: إنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ كُلُّ دَلْوٍ عَنْ بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَثِيرُ مَا اسْتَكْثَرَهُ النَّاظِرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ يَابِسًا لَا يَنْجَسُ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مُنْكَسِرًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يَمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الرَّوْثِ الْيَابِسِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَنْجَسُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمَشَايِخِ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْبَعْرِ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ طَرِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنَّ لِلْيَابِسِ صَلَابَةً، فَلَا يَخْتَلِطُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّطْبَ يَنْجَسُ بِاخْتِلَاطِ رُطُوبَتِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ وَالْحَاكِمِ فِي الْإِشَارَاتِ، وَكَذَا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الرَّوْثُ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ رَخْوٌ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ، لِتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ لَا يَنْجَسُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَثُرَتْ تَقَعُ الْمُمَاسَّةُ بَيْنَهُمَا؛ فَيَصْطَكُّ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهَا فَتَنْجَسُ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَا حَاجِزَ لَهَا عَلَى رُءُوسِهَا، وَيَأْتِيهَا الْأَنْعَامُ فَتُسْقَى فَتَبْعَرُ، فَإِذَا يَبِسَتْ الْأَبْعَارُ عَمِلَتْ فِيهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْبِئْرِ، فَلَوْ حُكِمَ بِفَسَادِ الْمِيَاهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي، وَمَا ضَاقَ أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ، فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: الْكَثِيرُ مِنْهُ يُفْسِدُ الْمِيَاهَ؟ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ فِي الْكَثِيرِ، وَكَذَا الرَّطْبُ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ تَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ لِثِقَلِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ سَوَاءٌ؛ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ فَلَا يَفْسُدُ إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الْمُنْكَسِرِ أَشَدُّ، وَالرَّوْثُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَعْرِ، هَذَا فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ،.
(وَأَمَّا) الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا الْمَشَايِخُ، فَمَنْ اعْتَمَدَ مَعْنَى الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةَ لَا يُفَرِّقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَمَنْ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ فَيَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَلَوْ انْفَصَلَتْ بَيْضَةٌ مِنْ دَجَاجَةٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: يُنْتَفَعُ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهَا قَذَرًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَتْ رَطْبَةً أَفْسَدَتْ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي الْمَرَقَةِ لَا تُفْسِدُهُمَا، وَهِيَ حَلَالٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ، سَقَطَتْ السَّخْلَةُ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ مُبْتَلَّةٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ، حَتَّى لَوْ حَمَلَهَا الرَّاعِي فَأَصَابَ بَلَلُهَا الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْسَدَتْ الْمَاءَ، وَإِذَا يَبِسَتْ فَقَدْ طَهُرَتْ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُوَافِقُ قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا فِي قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْبَيْضَةُ طَاهِرَةٌ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً، وَكَذَا السَّخْلَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَانِهَا وَمَعْدِنِهَا كَمَا قَالَ فِي الْإِنْفَحَةِ إذَا خَرَجَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، جَامِدَةً كَانَتْ أَوْ مَائِعَةً، وَعِنْدَهُمَا، إنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَنَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَلَوْ وَقَعَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ عَظْمُ الْخِنْزِيرِ أَفْسَدَهُ كَيْفَمَا كَانَ.
وَأَمَّا عَظْمُ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ أَوْ دَسَمٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَشِيعُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُفْسِدْ؛ لِأَنَّ الْعَظْمَ طَاهِرٌ بِئْرٌ وَجَبَ مِنْهَا نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا، فَنُزِحَ الدَّلْوُ الْأَوَّلُ وَصُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ، يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْبِئْرَ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى حِينَ كَانَ الدَّلْوُ الْمَصْبُوبُ فِيهَا، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الثَّانِي يُنْزَحُ تِسْعَةَ عَشْرَ دَلْوًا، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْعَاشِرُ- فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ- يُنْزَحُ عَشَرَةُ دِلَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَحَدَ عَشْرَ دَلْوًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأُولَى سِوَى الْمَصْبُوبِ، وَمِنْ الثَّانِيَةِ مَعَ الْمَصْبُوبِ، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ يَنْزَحُ دَلْوًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ، وَلَوْ أُخْرِجَتْ الْفَأْرَةُ وَأُلْقِيَتْ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ، وَصُبَّ فِيهَا أَيْضًا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ مَاءِ الْأُولَى تُطْرَحُ الْفَأْرَةُ وَيُنْزَعُ عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ، فَكَذَا الثَّانِيَةُ.
بِئْرَانِ وَجَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ، فَنُزِحَ عِشْرُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى، يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَلَوْ وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى، نَزْحُ أَرْبَعِينَ، فَنُزِحَ مَا وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى، يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا وَجَبَ مِنْ النَّزَحِ مِنْهَا، وَإِلَى مَا صُبَّ فِيهَا، فَإِنْ كَانَا سَوَاءً تَدَاخَلَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ دَخَلَ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ، وَعَلَى هَذَا ثَلَاثَةُ آبَارٍ وَجَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ نَزْحُ عِشْرِينَ، فَنُزِحَ الْوَاجِبُ مِنْ الْبِئْرَيْنِ وَصُبَّ فِي الثَّالِثَةِ، يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ، فَلَوْ وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى نَزْحُ أَرْبَعِينَ فَصُبَّ الْوَاجِبَانِ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ؛ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ، وَلَوْ نُزِحَ دَلْوٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَصُبَّ فِي الْعِشْرِينَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ نُزِحَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ الْوَاجِب وَالْمَصْبُوبُ جَمِيعًا فَقِيلَ لَهُ: إنَّ مُحَمَّدًا رَوَى عَنْكَ الْأَكْثَرَ فَأَنْكَرَ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ وَمَاتَتْ فِيهَا يُهْرَاقُ كُلُّهُ، وَلَوْ صُبَّ مَاؤُهُ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ الْمَصْبُوبُ وَعِشْرُونَ دَلْوًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى مَاءِ الْجُبِّ فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ أَكْثَرَ نُزِحَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ نُزِحَ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةُ الْفَأْرَةِ.
فَأْرَةٌ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ، فَجَاءُوا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ يَسَعُ عِشْرِينَ دَلْوًا بِدَلْوِهِمْ، فَاسْتَقَوْا مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُمْ وَطَهُرَتْ الْبِئْرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ قَدْرُ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ ذَلِكَ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ بِعِشْرِينَ دَلْوًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: لَا يَطْهُرُ إلَّا بِنَزْحِ عِشْرِينَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَكْرَارِ النَّزْحِ يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، وَلَوْ صُبَّ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالطَّاهِرُ إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّهُورِ لَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ، إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ طَهَارَتَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَاد بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ، فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ احْتِيَاطًا، وَلَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، أَوْ انْفَصَلَ وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، أَوْ انْفَصَلَ وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ.
فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنْ الطَّاهِرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ طَهُرَ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ قَدْ تَمَيَّزَ مِنْ الطَّاهِرِ، وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ قَوْلَهُ: مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَسَ انْفَصَلَ مِنْ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنْ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ، إذْ لَوْ أَعْطَى لِلْقَطَرَاتِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَمْ يَطْهُرْ بِئْرٌ أَبَدًا، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْآبَارِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَاتِ فِيهَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ إلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجَسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إلَّا بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُنْفَصِلًا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ الْقَطَرَاتِ تَقْطُرُ فِي الْبِئْرِ، فَإِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَانَ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَتَنَجَّسَ الْبِئْرُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ قَلِيلٌ، وَالنَّجَاسَةُ- وَإِنْ قَلَّتْ- مَتَى لَاقَتْ مَاءً قَلِيلًا تُنَجِّسُهُ، فَكَانَ هَذَا تَطْهِيرًا لِلْبِئْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنْجِيسًا لَهُ ثَانِيًا، وَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَنْجِيسِ الْبِئْرِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا.
لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ، وَصَلَّى أَيَّامًا، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا فَأْرَةً، فَإِنْ عَلِمَ وَقْتَ وُقُوعِهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعِيدَ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَتْ مُنْتَفِخَةً أَوْ مُتَفَسِّخَةً أَعَادَ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْتَفِخَةٍ وَلَا مُتَفَسِّخَةٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ فِي ثَوْبِهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ وَقْتَ إصَابَتِهَا لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ، كَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَرِيَّةً يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً يُعِيدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا.
وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ دَمًا لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَنِيًّا يُعِيدُ مِنْ آخِرِ مَا احْتَلَمَ؛ لِأَنَّ دَمَ غَيْرِهِ قَدْ يُصِيبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِصَابَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْ زَمَانَ وُجُودِهِ، فَأَمَّا مَنِيُّ غَيْرِهِ فَلَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنِيُّهُ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِ خُرُوجِهِ، حَتَّى أَنَّ الثَّوْبَ لَوْ كَانَ مِمَّا يَلْبِسُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ يَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الدَّمِ وَالْمَنِيِّ، وَمَشَايِخُنَا قَالُوا فِي الْبَوْلِ: يُعْتَبَرُ مِنْ آخَرِ مَا بَالَ، وَفِي الدَّمِ مِنْ آخِرِ مَا رَعَفَ وَفِي الْمَنِيّ مِنْ آخِرِ مَا احْتَلَمَ أَوْ جَامَعَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى، وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ مَيِّتَةً بِأَنْ مَاتَتْ فِي مَكَان آخَرَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا بَعْضُ الطُّيُورِ فِي الْبِئْرِ، عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَوْلِي مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَى أَنْ كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا فِي بُسْتَانِي فَرَأَيْتُ حِدَأَةً فِي مِنْقَارِهَا جِيفَةٌ فَطَرَحَتْهَا فِي بِئْرٍ، فَرَجَعْتُ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّكُّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى، فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ إصَابَتِهَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ، كَذَا هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وُقُوعَ الْفَأْرَةِ فِي الْبِئْرِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَالْمَوْتُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ صَالِحٍ يُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَإِنَّهُ يُحَالُ بِهِ إلَى الْجَرْحِ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ.
وَإِذَا حِيلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ فَأَدْنَى مَا يَتَفَسَّخُ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي عَلَى قَبْرِ مَيِّتٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَوَهَّمَ الْوُقُوعَ بَعْدَ الْمَوْتِ إحَالَةً بِالْمَوْتِ إلَى سَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ، وَتَعْطِيلٌ لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْوَهْمِ، وَالْتَحَقَ الْمَوْتُ فِي الْمَاءِ بِالْمُتَحَقِّقِ، إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ الْمُعَايَنَةِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ مَيِّتًا، فَحِينَئِذٍ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ حَاصِلٍ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَفِخَةً، فَلِأَنَّا إذَا أَحَلْنَا بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ زَمَانَ الْمَوْتِ سَابِقٌ عَلَى زَمَانِ الْوُجُودِ، خُصُوصًا فِي الْآبَارِ الْمُظْلِمَةِ الْعَمِيقَةِ الَّتِي لَا يُعَايَنُ مَا فِيهَا، وَلِذَا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَخْرُجُ بِأَوَّلِ دَلْوٍ، فَقُدِّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ، (وَالْفَرْقُ) بَيْنَ الْبِئْرِ وَالثَّوْبِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَاكِمِ أَنَّ الثَّوْبَ شَيْءٌ ظَاهِرٌ، فَلَوْ كَانَ مَا أَصَابَهُ سَابِقًا عَلَى زَمَانِ الْوُجُودِ لَعُلِمَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانَ، فَكَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْإِصَابَةِ- بِخِلَافِ الْبِئْرِ عَلَى مَا مَرَّ- وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عَجَنَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ خُبْزُهُ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُؤْكَلُ، وَإِذَا لَمْ يُؤْكَلْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ مَشَايِخُنَا: يُطْعَمُ لِلْكِلَابِ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ بِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِهِ- وَالنَّجَاسَةُ مَعْلُومَةٌ- لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَكْلِ، كَالدُّهْنِ النَّجَسِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ اسْتِصْبَاحًا إذَا كَانَ الطَّاهِرُ غَالِبًا فَكَذَا هَذَا وَبِئْرُ الْمَاءِ إذَا كَانَتْ بِقُرْبٍ مِنْ الْبَالُوعَةِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَقَدَّرَ أَبُو حَفْصٍ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمَا بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ بِخَمْسَةٍ، وَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِتَفَاوُتِ الْأَرَاضِي فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ: لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَلَكِنْ يُوجَدَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخُلُوصِ، وَعَدَمِ الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِظُهُورِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْآثَارِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ الْحَيَوَانُ إذَا مَاتَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِّيًّا أَوْ مَائِيًّا، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، كَالذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَنَحْوِهَا لَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُنَجِّسُ مَا يَمُوتُ فِيهِ مِنْ الْمَائِعِ، سَوَاءٌ كَانَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ، كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَرِّيًّا أَوْ مَائِيًّا كَالْعَقْرَبِ الْمَائِيِّ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّمَكُ طَافِيًا أَوْ غَيْرَ طَافٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْمَائِعِ كَدُودِ الْخَلِّ، أَوْ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لَا يَنْجَسُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ قَوْلَانِ، (وَيَحْتَجُّ) بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ}، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ بِالْحَدِيثِ، وَالذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ بِالضَّرُورَةِ.
(وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِعَيْنِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَلَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَلَكِنْ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَإِنْ كَانَ بَرِّيًّا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَيُنَجِّسُ الْمَائِعَ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ مَاتَ فِي الْمَائِعِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الدَّمَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ السَّائِلَ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ، إلَّا الْآدَمِيَّ إذَا كَانَ مَغْسُولًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَائِيًّا كَالضُّفْدَعِ الْمَائِيِّ وَالسَّرَطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ حَيَّةً مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ مَاتَتْ فِي الْمَاءِ، إنْ كَانَتْ بِحَالٍ لَوْ جُرِحَتْ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا الدَّمُ لَا تُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ جُرِحَتْ لَسَالَ مِنْهَا الدَّمُ تُوجِبُ التَّنْجِيسَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا عَلَّلَ بِهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ- وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخٍ- فَهِمُوا مِنْ تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الْمِيَاهِ عَنْ مَوْتِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَعْدِنَهَا الْمَاءُ، فَلَوْ أَوْجَبَ مَوْتُهَا فِيهَا التَّنْجِيسَ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَبَعْضُهُمْ- وَهُمْ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ- فَهِمُوا مِنْ تَعْلِيلِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا يَكُونُ لَهَا دَمٌ، إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لِمُخَالَفَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ الدَّمِ، فَلَمْ تَتَنَجَّسْ فِي نَفْسِهَا؛ لِعَدَمِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، فَلَا تُوجِبُ تَنْجِيسَ مَا جَاوَرَهَا ضَرُورَةً، وَمَا يُرَى فِي بَعْضِهَا مِنْ صُورَةِ الدَّمِ فَلَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّمَكَ يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ مَعَ أَنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلِذَا، إذَا شَمَسَ دَمُهُ يَبْيَضُّ، وَمِنْ طَبْعِ الدَّمِ أَنَّهُ إذَا شَمَسَ اسْوَدَّ، وَإِنْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الْأُولَى يُوجِبُ التَّنْجِيسَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صِيَانَةُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ عَنْ مَوْتِهَا فِيهَا، وَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ لِانْعِدَامِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِيهَا.
وَرُوِيَ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ، وَأَبَا مُعَاذٍ عَنْ الضُّفْدَعِ يَمُوتُ فِي الْعَصِيرِ فَقَالَا: يُصَبُّ وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ فَقَالَا: لَا يُصَبُّ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَفْسُدُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ لَا يُفْسِدُ غَيْرَ الْمَاءِ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامُ عَنْهُمْ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ الْمُتَفَسِّخِ وَغَيْرِهِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ شُرْبُ الْمَائِعِ الَّذِي تَفَسَّخَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، ثُمَّ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَائِيِّ وَالْبَرِّيِّ أَنَّ الْمَائِيَّ: هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، وَالْبَرِّيَّ: هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِيهِمَا جَمِيعًا كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ؛ لِأَنَّ لَهُ دَمًا سَائِلًا وَالشَّرْعُ لَمْ يُسْقِطْ اعْتِبَارَهُ، حَتَّى لَا يُبَاحَ أَكْلُهُ بِدُونِ الذَّكَاةِ بِخِلَافِ السَّمَكِ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَفْسُدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَائِعِ.
فَأَمَّا إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ أَوْ مَكَانَ الصَّلَاةِ، أَمَّا حُكْمُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ غَلِيظَةً، أَوْ خَفِيفَةً قَلِيلَةً، أَوْ كَثِيرَةً، أَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَفِيفَةً أَوْ غَلِيظَةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَمْنَعَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ- وَهِيَ الْحَدَثُ- شَرْطٌ، ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِم بِالْقَلِيلِ مِنْ الْحَدَثِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لُمْعَةٌ، فَكَذَا بِالْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ: إذَا كَانَ مِثْلَ ظُفْرِي هَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنَّ الذُّبَابَ يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَةِ، ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى ثِيَابِ الْمُصَلِّي ولابد وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَجْنِحَتِهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْبَلْوَى فِي الْحَدَثِ مُنْعَدِمَةٌ؛ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِدُونِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ، حَتَّى لَوْ جَلَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ؛ وَلِهَذَا قَدَّرْنَا بِالدِّرْهَمِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ مَوْضِعِ خُرُوجِ الْحَدَثِ، كَذَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إنَّهُمْ اسْتَقْبَحُوا ذِكْرَ الْمَقَاعِدِ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَكَنَّوْا عَنْهُ بِالدِّرْهَمِ تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ وَأَخْذًا بِصَالِحِ الْأَدَبِ وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْكَثِيرَةُ فَتَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إذَا بَلَغَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَمْنَعُ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَدَّ مِقْدَارَ ظُفُرٍ مِنْ النَّجَاسَةِ قَلِيلًا، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَظُفْرُهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا فَعُلِمَ أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عَفْوٌ، وَذَلِكَ يَبْلُغُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمَبْطُونِ، وَلِأَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْسَعُ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَرْضِ وَالْمِسَاحَةِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنِ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ: الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ: مَا يَكُونُ عَرْضَ الْكَفِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ ظُفْرَهُ كَانَ كَعَرْضِ كَفِّ أَحَدِنَا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ الْمِثْقَالَ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْوَزْنِ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَر الْهِنْدُوَانِيُّ: لَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا فَنُوَفِّقُ وَنَقُولُ: أَرَادَ بِذِكْرِ الْعَرْضِ تَقْدِيرَ الْمَائِعِ، كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ تَقْدِيرُ الْمُسْتَجْسِدِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَزْنًا تُمْنَعُ؛ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَأَمَّا حَدُّ الْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ فَهُوَ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ فَكَرِهَ أَنْ يَحِدَّ لَهُ حَدًّا، وَقَالَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ مَا يَسْتَفْحِشُهُ النَّاسُ وَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَرُوِيَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الثَّوْبِ، وَرُوِيَ نِصْفُ الثَّوْبِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ نِصْفُ كُلِّ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ نِصْفُ طَرَفٍ مِنْهُ، أَمَّا التَّقْدِيرُ بِأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ؛ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ لَا يَكُونُ الشَّيْءُ قَلِيلًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ كَثِيرٌ، وَكَذَا لَا يَكُونُ كَثِيرًا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ قَلِيلٌ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِكَثِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابِلَتِهِ قَلِيلٌ؛ فَكَانَ الْكَثِيرُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ، بِالنِّصْفِ فَلِأَنَّ الْعَفْوَ هُوَ الْقَلِيلُ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، إذْ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ.
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالشِّبْرِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الضَّرُورَةِ تَقَعُ لِبَاطِنِ الْخِفَافِ.
وَبَاطِنُ الْخُفَّيْنِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ.
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ وَبَاطِنِهِمَا، وَذَلِكَ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: الرُّبُعَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّرْهَمَ جُعِلَ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ شَرْعًا مَعَ انْعِدَامِ مَا ذَكَرَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ بِالدِّرْهَمِ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ؛ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَقُدِّرَ بِمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الرُّبْعُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِ الرُّبْعِ قِيلَ: رُبْعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدَّرَاهُ بِرُبْعِ الثَّوْبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْكُلِّ وَقِيلَ: رُبْعُ كُلِّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ مِنْ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ وَالذَّيْلِ، وَالْكُمِّ وَالدِّخْرِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا قَبْلَ الْخِيَاطَةِ كَانَ ثَوْبًا عَلَى حِدَةٍ، فَكَذَا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا وَرَدَ نَصٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى طَهَارَتِهِ، مُعَارِضًا لَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَالْخَفِيفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ: مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَالْخَفِيفَةُ: مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ، (إذَا) عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَقَالَ: إنَّهَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ- أَيْ نَجِسٌ» وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ مُعَارِضٌ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً.
وَعَلَى قَوْلِهِمَا نَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ،.
(أَمَّا) عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِ نَصٍّ مُعَارِضٍ لِنَصِّ النَّجَاسَةِ،.
(وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَلِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِتَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، وَهُمَا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ مَعَ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ فِي الْبَوْلِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ،.
(وَأَمَّا) الْعَذِرَاتُ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، فَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، هَذَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ،.
(وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْأَرْوَاثِ عَلَى طَرِيقَةِ الِابْتِدَاءِ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْأَرْوَاثِ ضَرُورَةً، وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا فِي الطُّرُقَاتِ، فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ عَنْهَا- وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ- بِخِلَافِ خُرْءِ الدَّجَاجِ وَالْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلَّمَا يَكُونُ فِي الطُّرُقِ، فَلَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِإِصَابَتِهِ، وَبِخِلَافِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ وَيَجِفُّ بِهَا فَلَا تَكْثُرُ إصَابَتُهُ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّوْثِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنْ الْأَرْوَاثِ، وَلِلنَّاسِ فِيهَا بَلْوَى عَظِيمَةٌ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّ طِينَ بُخَارَى إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا؛ لِبَلْوَى النَّاسِ فِيهِ لِكَثْرَةِ الْعَذِرَاتِ فِي الطُّرُقِ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} جَمَعَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ لِكَوْنِهِمَا نَجِسَيْنِ، ثُمَّ بَيْنَ الْأُعْجُوبَةِ لِلْخَلْقِ فِي إخْرَاجِ مَا هُوَ نِهَايَةٌ فِي الطَّهَارَةِ- وَهُوَ اللَّبَنُ- مِنْ بَيْنِ شَيْئَيْنِ نَجِسَيْنِ، مَعَ كَوْنِ الْكُلِّ مَائِعًا فِي نَفْسِهِ؛ لِيُعْرَفَ بِهِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ، وَالْحَكِيمُ إنَّمَا يَذْكُرُ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّجَاسَةِ؛ لِيَكُونَ إخْرَاجُهُ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الطَّهَارَةِ، مِنْ بَيْنِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّجَاسَةِ نِهَايَةٌ فِي الْأُعْجُوبَةِ، وَآيَةٌ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ فِي الطُّرُقَاتِ فَالْعُيُونُ تُدْرِكُهَا فَيُمْكِنُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ، كَمَا فِي بَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ تُنَشِّفُ الْأَبْوَالَ فَالْهَوَاءُ يُجَفِّفُ الْأَرْوَاثَ، فَلَا تَلْتَزِقُ بِالْمَكَاعِبِ وَالْخِفَافِ، عَلَى أَنَّا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الضَّرُورَةِ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهَا- وَهُوَ الدِّرْهَمُ فَمَا دُونَهُ- فَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّرْقِيَةِ بِالتَّقْدِيرِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ- وَهِيَ كَثِيرَةٌ- فَجَفَّتْ، وَذَهَبَ أَثَرُهَا، وَخَفِيَ مَكَانُهَا؛ غُسِلَ جَمِيعُ الثَّوْبِ وَكَذَا لَوْ أَصَابَتْ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ؛ غَسَلَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَا إذَا رَاثَتْ الْبَقَرَةُ أَوْ بَالَتْ فِي الْكَدِيسِ وَلَا يُدْرَى مَكَانَهُ؛ غَسَلَ الْكُلَّ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: إذَا غَسَلَ مَوْضِعًا مِنْ الثَّوْبِ- كَالدِّخْرِيصِ وَنَحْوِهِ- وَأَحَدِ الْكُمَّيْنِ وَبَعْضًا مِنْ الْكَدِيسِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ طَاهِرًا فَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَرْفَعُ الْيَقِينَ، وَكَذَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَشَكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، إلَّا الْإِزَارُ وَالسَّرَاوِيلُ فَإِنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَتَجُوزُ،.
(أَمَّا) الْجَوَازُ؛ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثِّيَابِ هُوَ الطَّهَارَةَ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ جَارٍ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ الْمَغْنُومَةِ مِنْ الْكَفَرَةِ قَبْلَ الْغَسْلِ.
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فِي الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ فَلِقُرْبِهِمَا مِنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ- وَعَسَى لَا يَسْتَنْزِهُونَ مِنْ الْبَوْلِ- فَصَارَ شَبِيهَ يَدِ الْمُسْتَيْقِظِ وَمِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي الْكَرَاهَةِ خِلَافًا، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الشَّرَابِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ فَقَالَ: إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْهَا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا، ثُمَّ اشْرَبُوا فِيهَا» وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ، وَأَوَانِيهِمْ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ دُسُومَةٍ مِنْهَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ثِيَابِ الْفَسَقَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ إصَابَةَ الْخَمْرِ ثِيَابَهُمْ فِي حَالِ الشُّرْبِ.
وَقَالُوا فِي الدِّيبَاجِ الَّذِي يَنْسِجُهُ أَهْلُ فَارِسٍ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فِيهِ الْبَوْلَ عِنْدَ النَّسْجِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي بِرِيقِهِ، ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ يُفْسِدُهُ فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهُ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِسَاطِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهِ بِقُرْبٍ مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، وَالنَّجَاسَةُ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ.
وَقَدْ وُجِدَ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً تَجُوزُ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الثَّوْبِ، أَوْ الْبَدَنِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ.
(وَلَنَا) أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلِهَذَا لَوْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ بِدُونِ الْوَضْعِ يُجْزِئُهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ أَصْلًا، وَلَوْ تَرَكَ الْوَضْعَ جَازَتْ صَلَاتُهُ، فَهاَهُنَا أَوْلَى، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْقِيَامِ: إنَّ ذَلِكَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَابِسَ الثَّوْبِ صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ وَتَمْشِي بِمَشْيِهِ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لِلثَّوْبِ، أَمَّا هاهنا بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ، فَإِنْ قَامَ عَلَيْهَا وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ افْتَتَحَهَا مَعَ الثَّوْبِ النَّجَسِ، أَوْ الْبَدَنِ النَّجِسِ، وَإِنْ قَامَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ.
وَقَامَ عَلَيْهَا أَوْ قَعَدَ، فَإِنْ مَكَثَ قَلِيلًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ الصَّلَاةَ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَ قَلِيلًا يَكُونُ عَفْوًا وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ حَيْثُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَطَالَ الْوَضْعَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا بَلْ مِنْ تَوَابِعِهَا، فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ تَبَعًا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ؛ لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ.
وَقَدْرُ الْجَبْهَةِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ أَرْنَبَةِ الْأَنْفِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَإِنْ كَانَ يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ الْأَرْنَبَةِ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ مَعَ الْأَرْنَبَةِ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، كَمَا إذَا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ زِيَادَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَمِقْدَارُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: إذَا سَجَدَ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَمْ تَجُزْ أَيْ صَلَاتُهُ، كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ سُجُودَهُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَفْسُدُ، حَتَّى لَوْ أَعَادَ السُّجُودَ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّجُودَ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ أَوْ رُكْنًا آخَرَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ؛ صَارَ فِعْلًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْقِيَامِ هُوَ الْقِيَامُ بِإِحْدَى الْقَدَمَيْنِ- وَإِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ- فَيَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ فَكَانَ وَضْعُ الْأُخْرَى فَضْلًا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَضَعَهُمَا جَمِيعًا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِهِمَا، كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى بِسَاطٍ فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ- وَهِيَ كَثِيرَةٌ- فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْبِسَاطُ كَبِيرًا بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا.
كَمَا إذَا تَعَمَّمَ بِثَوْبٍ، وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ نَجِسٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بِخِلَافِ الْعِمَامَةِ، (وَالْفَرْقُ)
أَنَّ الطَّرَفَ النَّجِسَ مِنْ الْعِمَامَةِ إذَا كَانَ يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ، صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لَهَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبِسَاطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ أَوْ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْمَوْضِعِ النَّجِسِ مِنْهُ يَجُوزُ؟، وَلَوْ صَارَ حَامِلًا لَمَا جَازَ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى ثَوْبٍ مُبَطَّنٍ ظِهَارَتُهُ طَاهِرَةٌ، وَبِطَانَتُهُ نَجِسَةٌ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ مَخِيطًا غَيْرَ مُضَرَّبٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبَيْنِ، وَالْأَعْلَى مِنْهُمَا طَاهِرٌ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كَانَ مَخِيطًا مُضَرَّبًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى عَلَى حَجَرِ الرَّحَا، أَوْ عَلَى بَابٍ، أَوْ بِسَاطٍ غَلِيظٍ، أَوْ عَلَى مُكَعَّبٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ، فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فَقَالَ: الْمَحَلُّ مَحَلٌّ وَاحِدٌ فَاسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، كَالثَّوْبِ الصَّفِيقِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْوَجْهَ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ فَقَالَ: إنَّهُ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، وَلَيْسَ هُوَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ فَتَجُوزُ، كَمَا إذَا صَلَّى عَلَى ثَوْبٍ تَحْتَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ بِخِلَافِ الثَّوْبِ الصَّفِيقِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ صَفِيقًا فَالظَّاهِرُ نَفَاذُ الرُّطُوبَاتِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا تُدْرِكُهُ الْعَيْنُ لِتَسَارُعِ الْجَفَافِ إلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ بِسَاطًا غَلِيظًا، أَوْ ثَوْبًا مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَعَلَى كِلَا وَجْهَيْهِ نَجَاسَةٌ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَكِنَّهُمَا لَوْ جُمِعَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يُجْمَعُ، وَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ لَا يُجْمَعُ، وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا صَفِيقًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ النَّفَاذُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، فَاجْتَمَعَ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ نَجَاسَتَانِ لَوْ جُمِعَتَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا، أَوْ بِسَاطًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَنَفَذَتْ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَإِذَا جُمِعَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا.